رسالة إلىّ

ومعارك أخرى تكسر فيها أجنحة اليمام ألواح الشفق، ونعود لنفس الأبواب التى كانت مسدودة بالأمس لعلها لا تنغلق اليوم، عل المعبر يفتحه الأخ وتدخل الشمس بيوتنا،
ما يعزينا فى الحصار يا روبانزل أن اليمام حر، فليس أمامه طرق لا بد أن يتهادى بين خطين رسمهما له غيره، وليس له تأشيرة وجواز سفر لا بد أن يختمها ضابط جالس خلف حاجز زجاجى، لابد أن تمدين له يدك من تحت الحاجز كأنك فى مرتبة دنيا عنه، تأبى النفس ذلك لكنه حنين عصفور حبيس إلى الطيران .. حنين إليكى ..
وندهلى حبيبى جيت بلا سؤال
من نومى سرقنى من راحة البال
بجانب البيت الذى أسكن فيه، تصدح فيروز كل صباح بهذا المقطع ويمتزج الجو برائحة البن المخلوط بالمرمرية، قهوة يمتلكها رجل سبعينى يحكى لروادها عن أطلال الروح وحكايا الزمان .. فى كل يوم يحادث رواد قهوته عن من قتل أبا عمار وأحاديث ال “ياسين”، يسب أوسلو ويبتسم حين يذكر حنظلة، ثم يشرح الصور المعلقة على جدار قهوته: هادا أخوى استشهد فى جباليا، هادا أبوى استشهد فى أبو زريق، هذا عمى قتلوه ولاد الكلب هوه ومرته فى صبرا، هادا خالى حرقوه اليهود -الله يقصف حطباتهم- وهوه فى زرعه ..
هو يحكى فى كل اليوم نفس الحكايا بنفس التفاصيل لنفس المستمعين، هو لم يمل وهم لا زالوا يترددون عليه … لا أدرى كيف لعلماء الأنثروبولوجيا أن يتغاضوا عن هذا التطور العجيب للأنسان ليتحول إلى مسجل يعيد كل يوم الشريط الوحيد الموجود داخل قاعة “الشرائط” وأن يتحول المستمعون فجأة إلى صم بكم ..
حين يرانى عائدا من المعبر عابسا يغنى لى :
شط اسكندرية يا شط الهوا
رحنا اسكندرية رمانا الهوا
يا دنيا هنية وليالى رضية
ليالى مشيتك يا شط الغرام
وان انا نسيتك ينسانى المنام
أقسمت له ألف مرة أننى لا أعيش فى اسكندرية ولم أزرها إلا مرات معدودة لأوقات محدودة، لكنه يتعامى عن هذه النقطة مهما فعلت ومهما قلت ..
الغريب أنه يتحمل صوتى الذى يعلو عليه كثيرا، أنا لم أعد أطاق بكل حال ..
حين ينبعث من المسجل صوت فيروز” هل جلست العصر مثلى ” أصرخ : والمغرب والعشاء، لكن بلا عنب ولا موس حلاقة وحيدا بلا أهل وبلا أى شئ ..
فيصرخ فىّ هو ” انجلع من هون شو احنا ما موتنا” … نحن الاثنان لا نُطاق، ولكن أتصدقين هو صديقى الوحيد هنا، نحن على هامش الدنيا وسنبقى على ما يبدو طويلا ..
فى الليالى الماضية كنت أدعو الله أن ينكسر الصمت الحذر بصاروخ يزورنى، وأنتهى من السجن الذى كُتب على …. يا رب ..
Claustrophobia … أتوقع أن لو جواز سفرى مر من المعبر ونال شرف الختم المصرى ستجديننى مصاب بها، بالاضافة ل Cyclothymia، اشعر أنى لم أعد صالحا للاستخدام الآدمى ..
أيام الحرب كنت فى الوسط، لا أنا حى ولا أنا ميت، جربت أن أشعر بدقات قلبى فى الحنجرة من شدة القصف، نمت على خطوط النار، كنت أؤدى مهام انسانية، كنت أحمى أطفالنا من الخوف، من العيش طوال عمرهم بتشوهات من آثار المواد الكيميائية التى يستخدمها الصهاينة، كان يزورنى عمرو كثيرا ..
سألته مرة : كيف اخترت أنت نهاية رومانسية كتلك ؟ … ضحك ولم يتكلم .. وفهمت
فى أيام الحرب، كنت مشغولا حتى أنى لم أحظ بوقت أخاف فيه، كل يوم أرسل تقريرا لمديرى فى جنيف، وانطلق الى مواقع القصف …
تكلمت عن نفسى كثيرا هذه المرة .. حدثينى عنكم ؟ لا بل حدثينى عنى .. عن روحى وعن الأولاد وعن الحياة ..
أفتقدك

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>